د. رياض نعسان آغا: امتحان الإسلام في شعار فصل الدين عن الدولة

د. رياض نعسان آغا: امتحان الإسلام في شعار فصل الدين عن الدولة
ملكية الصورة: الإنترنت
د. رياض نعسان آغا - نداء بوست

كان شعار فَصْل الدين عن الدولة جوهر دعوات العلمانية وأكثرها سُطوعاً، وكانت هذه الدعوة ضرورة لنهضة أوروبا بعد قرون من سيطرة الكنيسة على الحكم في بلدان أوروبا وبلاد المسيحية عامة.

ومنذ أن أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين اعتناقه للمسيحية وصدر مرسوم "ميلانو" عام 313 تحولت الإمبراطورية البيزنطية إلى دولة مسيحية عظمى، وحين بنى القسطنطينية صارت عاصمة الإمبراطورية المركز الحضاري للمسيحية الشرقية ونافست بابا روما في زعامة العالم المسيحي، وما تزال تداعيات هذا التنافس قائمة إلى اليوم، ولكن دون ضجيج، منذ أن حدث الانشقاق العظيم بين الكاثوليكية والكنيسة الشرقية عام 1054 .

كانت الكنيستان على الضفتين الشرقية والكاثوليكية تسيطران على شؤون الحكم، ولا سيما أن مرجعية الأباطرة والملوك كانت نابعة من مفهوم الحق الإلهي، وأصبحت البابوية مصدر استمرار السلطة، (مثلاً كان البابا غريغوري الكبير أقوى من الإمبراطور في إيطاليا) ونذكر أن البابا أوربان الثاني هو الذي دعا ملوك أوروبا للقيام بالحملات الصليبية فاستجابوا له، وفي عصر النهضة ظهر الإصلاح البروتستانتي في ألمانيا، على يد مارتن لوثر في القرن السادس عشر، وانتقد بجرأة ما كان من فساد في سلطة الكنيسة وبخاصة بيع صكوك الغفران، ومن أهم دعواته، رفض سلطة الكنيسة في (الغفران) باعتباره منحة من الله لعباده، ورفض السلطة التعليمية للكنيسة الكاثوليكية التي اختصت نفسها بتفسير الكتاب المقدَّس، مُعلِناً أن لكل مسيحي حقاً في تفسير الكتاب، وفي القرن الثامن عشر ظهرت الأفكار القومية وظهر الإلحاد، وبدأت سلطة الكنيسة تضعف ولا سيما مع نمو البروتستانية مع طوائف مسيحية أخرى دون سلطة مركزية في الولايات المتحدة، مما جعل اختيار مذهب معين مشكلة مع الآخرين، فكان الخيار الأفضل فصل الدين عن الدولة، واعتماد مفهوم الدولة العلمانية، وقد انتشرت العلمانية بقوة في القرن العشرين، وتم فَصْل الدين عن الدولة في العديد من دول العالم، لكن المسيحية بقيت ديناً للشعوب المسيحية الأصل رغم تراجُع حضورها الاجتماعي، لكنها عادت إلى ساحات السياسة عَبْر ظهور أحزاب مسيحية ناشطة، وعَبْر حضور مركزي في الدساتير الأوروبية وسواها التي تحدد كون المسيحية دين الدولة، ولنا أن نلحظ النفوذ الديني في الدول العلمانية الكبرى، وأن نذكر قوة اليمين الإنجيلي داخل الحزب الجمهوري الأمريكي، وقوة جماعة الضغط المسيحي في الاتحاد الأوروبي، وبروز قوة الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني، وبروز مكانة الكنيسة الأرثوذكسية في دعم الحكومة الروسية، وحرص الرئيس بوتين على مباركة الكنيسة لجيشه المنطلق لدعم الديكتاتورية في سورية.

وقد انطلقت دعوات فصل الدين عن الدولة في البلدان المسلمة، ووصل صدى نداءات العلمانية إلى العالم العربي قويةً منذ أواخر القرن التاسع عشر، واضطرب المجتمع العربي المسلم في فهمها، وكان الاختلاف بين كسر عين العِلمانية وبين فَتْحها، فمن فهمها بفتح العين (عَلمانية) فهم أنها تعود إلى (العَالمانية) التي تؤمن غالباً بأن العالم خلق نفسه بنفسه، وهي بالطبع تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ومن فهمها بكسر العَيْن (عِلمانية) نسبها إلى الإيمان بالعِلْم، ومن أهم التفاسير ما قدمه الباحث المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري في دراسته بعنوان (الإسلام والعلمانية في عالم متغير) حيث يقدم التعريف التالي (كلمة "العلمانية" هي ترجمة لكلمة "سيكولاريزم Secularism" الإنجليزية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني العالم أو الدنيا وتوضع في مقابل الكنيسة، وقد استخدم مصطلح "سيكولارSecular لأول مرة مع توقيع صلح "وستفاليا" (عام 1648م) الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوروبا، وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية) مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي لسلطة الدولة المدنية).

ويقدم المسيري تعريفاً لكل من العلمانية الجزئية، والعلمانية الشمولية، فالجزئية لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية ولذلك تسمى العلمانية الأخلاقية، وأما الشمولية فهي تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغَيْبيَّات بكل مجالات الحياة، وقد تباينت آراء وتفسيرات المفكرين العرب لمفهوم العلمانية، فقد رأى الجابري (مثلاً) أن العلمانية لا تقتصر على فصل الكنيسة عن الدولة، وإنما هي دعوة إلى الديمقراطية، وميز د. وحيد عبد المجيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحَتْ مَنْحًى وسيطاً، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها. واستغرب المفكر الدكتور أحمد البرقاوي طرح العلمانية على العرب بوصفها رد فعل على التيارات الإسلامية الأصولية وهو يقول: (إذا ما حصرنا القضية في مشكلة العلمانية فإننا لا نستطيع أن نطرح مشكلة الدولة على نحو صحيح؛ لأن المشكلة الحقيقية في الدولة ليست إذا كانت علمانية أو دينية، مشكلة الدولة إذا كانت مُعبِّرة عن المجتمع أو غير مُعبِّرة، وبالتالي قد تكون هناك دولة علمانية ولكنها مستبدة فهل هذا هو الحل؟ النازية دولة علمانية والدولة الفاشية علمانية وكثير من الدول العربية علمانية، ولكنها مستبدة. إذن من وجهة نظري: هناك ضيق أُفق في طرح العلمانية كخيار نهائي للعرب، المشكلة الأعمق هي طرح الدولة الديمقراطية،وأنها في النهاية تقود بالضرورة إلى العلمانية، أما العلمانية فلا تقود بالضرورة إلى الديمقراطية.

 وبرأيي الشخصي هناك خلط عجيب في دعوة العلمانية العربية إلى الفصل بين الدين والدولة، وتجاهُل لكون الدولة كياناً مجتمعياً يتكون (من أرض أو إقليم) ومن شعب أو سكان أو لنقل مواطنين (بينهم أجانب مقيمون، وافدون) ومن (سلطة، حكومة، أجهزة إدارية وعسكرية) تنظم حياة السكان وتتكفل بحمايتهم وحماية الأرض أو الإقليم، وعَبْر هذا الفهم، نجد أن إطلاق كلمة دين على الدولة هو (إطلاق مجازيّ) فالدولة بوصفها أرضاً ليست مكلفةً باتباع دين، إنها مفهوم اعتباريّ، فأما المعنيون بالدين فهم (السكان، الشعب، البشر) وهؤلاء لا يجوز أن ينادي أحد بفصلهم عن دينهم، فهذا تعسُّف واعتداء على حقوقهم في اختيار عقائدهم وفي التعبير عنها، وهذا الحق مكفول بكل القوانين الإنسانية، فأما الذي يمكن فصله عن الدين، فهو (السلطة) التي يُفترَض أن الشعب هو الذي انتخبها، وأنها تمثله، وهي خاضعة للبرلمان الذي يُمثِّل الشعب ويضع القوانين، ويحدد العلاقة بين أفراد الشعب، وبينهم وبين السلطة، عَبْر عَقْد اجتماعي (هو الدستور) الذي يتوافق عليه المواطنون، ويحفظ لهم حقوقهم في خصوصياتهم الفكرية والثقافية والشعائرية، لكنه لا يجبر أحداً منهم على اعتقادٍ أو فكرٍ معينٍ، إنه ينظم علاقاتهم كما ينظم شرطي المرور حركة السير دون أن يُجبِر أحداً على اتجاه، وهنا يمكن إعلان فصل الأديان عن السلطة (وليس عن الدولة بوصفها كياناً، أرضاً وشعباً وسلطة معاً) وهذا الفهم يجعل الفصل المنشود وسطياً، ففي قوانين الأحوال الشخصية لا يمكن فصل الدين عن الشعب، ولا سيما في علاقات الزواج والطلاق والبنوة والإرث، وقد ظهر منذ عهود الإمبراطورية العثمانية الإسلامية ما سُمي (النظام المِلِّيّ) للحفاظ على خصوصيات المسيحيين واليهود وسواهم من غير المسلمين، وفي دولنا العربية الراهنة لدينا حفاظ قانوني على استقلال الخصوصيات في الأحوال الشخصية، وتُسمَّى في سورية مثلاً (المحاكم الروحية) .

ولا بُدّ من القول: إن الدولة الدينية الإسلامية الصرفة انتهت مع وفاة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي خطط لقيام دولة مدنية في (وثيقة المدينة المنورة) التي أسست لولادة مجتمع (مدني) ولم يكن تحويل اسم (يثرب) إلى (المدينة) عبثياً، وإنما كان تحوُّلاً من مجتمع قَبَلِيّ إلى مجتمع مَدَنِيّ، يضم كل الديانات والأعراق والمعتقدات في مفهوم (أمة) ومما جاء في الوثيقة:

 (هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومَن اتَّبعهم فلَحِقَ بهم، إنهم أُمةٌ واحدةٌ من دُون الناسِ)، ومع انتهاء الوحي بوفاة رسول الله بدأت الحياة المدنية مستمدة عقائدها الروحية والفكرية من الإسلام، ولكنها تدير شؤون الحكم بالرأي والمشورة ثم بالغلبة العسكرية حين ظهرت الصراعات السياسية التي لا شأن للدين بها، وقد برزت قوية مع قيام الدولة الأموية، ولم يكن الدين مُسيطِراً وحده على توجُّهات الدولة عملياً، ولم يكن مفروضاً على غير المسلمين، بمن في الدولة من المشركين أو الكافرين، فَهُمْ حتى في الدولة الإسلامية معاهدون، ولم تكن حروب الردة في عهد الخليفة أبي بكر لإجبار المرتدين على العودة إلى الدين، وإنما كانت لردهم إلى سلطة الدولة، وقد بقي الدين مرجعية عَقَديَّة يقوى شأنها حيناً ويضعف أحياناً، وبهذا المعيار كانت دولة بني أمية مدنية، تتيح لكل رعاياها حرية عقائدهم وأمن معابدهم وكنائسهم وكنسهم، وكانت تجربتها الأندلسية بخاصةٍ رائدةً في التعايش مع التعدُّدية التي أنجبت نمطاً متميزاً في سياق الحضارة الإسلامية.

إنني مع الدعوة إلى فصل الدين عن السلطة، ولكنني أرفض فصل الدين عن الشعب، وللشعب كامل حريته في معتقداته، ولا يوجد في الإسلام رجال دين، ولا كهنوت، ولا إكليروس، بل هناك علماء ومُفْتُونَ متخصصون في علوم الدين الإسلامي، وليست لهم أية سلطة رسمية، ولا سلطة للمسجد عامة على شؤون الناس أبعد من النصح والموعظة الحسنة، ولا أنكر أن المساجد تلعب دوراً تحريضياً ضد السلطة حين تكون مستبدة ظالمة فاسدة جائرة، ولكن لا يحق لأحد أن يدعو باسم الدين إلى قيام دولة أو إمارة دينية، فالدولة في الإسلام مدنية تضم كل الديانات والشعوب والأعراق ولكل منهم أن يمارس شعائره وخصوصياته، وأن يخضع في أحواله الشخصية لدينه أو طائفته أو مذهبه، وشعار الإسلام الأشهر (لا إكراه في الدين) وشعاراته المبدئية هي إقامة (العدل والإحسان) بين جميع الناس، والتكافل الاجتماعي المطلق في الدفاع عن حقوق الإنسان كائناً مَن كان، بل إنه يدافع عن حقوق الحيوان، وعن كرامة البشرية وعن حرمة الأوطان . وبهذا الفهم تكون العلمانية الجزئية وليست الشمولية مساراً عادياً قَبِلَهُ الإسلامُ وطبقه في تاريخه الطويل، ولا توجد اليوم في العالم الإسلامي دولة دينية غير دولة إيران الإسلامية التي تقوم على نظرية انتظار عودة الإمام الغائب الذي ينوب عنه الوليّ الفقيه، وهذا ما لا يقبله كافة المسلمين من أهل السُّنة، ويرفضه كثير من فقهاء الشيعة أيضاً . ومشكلة الشعوب العربية اليوم هي مع الدولة الأمنية والعسكرتارية التي تزيف الديمقراطية وتجعلها شكلية مائعة تخدم منظومة الاستبداد والديكتاتورية.