كتب أحمد البرهو.. في التسامح: عند إشارات المرور

كتب أحمد البرهو.. في التسامح: عند إشارات المرور
ملكية الصورة: الإنترنت
أحمد البرهو – كاتب وشاعر سوري

تحاول الدول المتقدمة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي عبر برمجة الآلة لتتعامل مع الإنسان  بحياديّة، وتقدّم خدمة الاستجابة  لمواقف سلوكيّة  متعددة، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعيّة، أو اللغة، أو لون البشرة، أو جنس، أو عرق، أو حتّى سن الإنسان الذي تتعامل معه المكنة.

يمكننا ملاحظة حجم الخدمة التي تقدّمها  "إشارات المرور" لعدد هائل من الأشخاص المُتوقع وقوفهم على احتمالات محدّدة: "المرور، أو العبور، أو التوقف والانتظار".

وفضلا عن كون إشارات المرور إحدى وسائل التنظيم، فإنّ احترام النّاس لتلك الإشارات  يمكن اعتباره مؤشّرا حضاريّاً، ويشير كذلك إلى علاقة الشعب بالقانون، وبالتالي  نجاح برامج التنمية ومؤسّسات الحكومة في بلد ما.

تواطأ الناس على فهم مشترك لمعاني إشارات المرور:"فالأحمر يعني: قف. والأصفر: استعد. والأخضر: تحرّك".

وتهدف إشارات المرور، عند موقف عبور المشاة  مثلا،  إلى تنظيم علاقة متوازنة مادتها الأوّليّة: عربات وسائقون، ومارّة. فيما يشكّل  المكان (الطريق)، والزمان عاملان حياديّان.

 ترسل  إشارات المرور للسائقين ثلاث رسائل، ورسالتين اثنتين للعابرين:

  1. الضوء الأحمر: سواء ظهر لجهة السائق أو لجهة المارّة فهو رسالة فحواها: قف.

قف بمقدار زمني مبرمج آليّا لنفترض أنه (5 ث).

  1. الضوء الأصفر: رسالة موجّهة إلى سائق العربة فقط، بمعنى: انتبه سيتغيّر الخيار بعد مدّة قصيرة.. سنفترض أن المدّة تعادل  (2ث)
  2. الضوء الأخضر: رسالة إلى أحد طرفي الموقف، السائق أو العابر، وتعني تحرّك.

بحساب اقتصاديٍّ دقيق ينال كل افتراض لموقف سلوكي استحقاقه من مساحتي: الزمان والمكان، فيتضاءل هامش الصدفة، الأمر الذي يساعد في تحديد المسؤولّة القانونيّة، ومن ثمّ تطبيق العدالة.

تنتهي مهمّة (السيمولوجيا) أو علم الإشارة، عند هذا الحد. بمعنى أنّه يساعد على بناء هيكلة لمنظومة حوكمة شاملة، وحياديّة بنسبة جيدة. شريطة اتفاق الخاضعين لهذه الحوكمة على تفسير مشترك لدلالة الرسالة التي تصدرها مكنة حياديّة مثل إشارات المرور.

لكن هل الحوكمة، بذاتها، هي الباعث على التسامح بين السائقين والمارّة؟

سنفترض أن شخصا ما يستقلّ عربة قادرة على أن تنطلق بسرعة هائلة - لنقل على سبيل المثال أنها تعادل سرعة الضوء-  والعربة وسائقها يقفان الآن عند إشارة المرور ذات اللون الأحمر.

 في هذه الأثناء يمارس شخص آخرحقّه بالعبور خلال الزمن المحدد له بحسب  زمن اللون الأخضر.

يحق للعابر (5)ثوانِ كاملة لولا أنّه بدأ بالمرور عند الثانية (3).

الثانية (3) بالنسبة إلى العابر هي اللحظة ذاتها التي تلقى السائق عندها بالضبط إخطارا عبر اللون الأصفر للاستعداد بالتحرّك بعد (2) ثانية.

إنّ الثانية الأولى بالنسبة إلى حق السّائق،لابد أنها ستحتك مع الثانية الأخيرة من حق العابر.

ثمّة اشتباك حقوقي مقداره (+/- 1ث) ضمن مساحة مقدارها (+/- 1م). أي فينقطة يحق عندهالسائق العربة قانونيّاً أن يدهس العابر،  ويحق للعابر قانونيّاً أن يتّهم السائق بمحاولة دهسه!.

فهل يمكن للحوكمة مهما بلغت من الحياد والدّقة أن تُجبر السائق والعابر على أن لا يتوحّشان!.

قد يقول قائل: إن هذا افتراض غير قابل للتحقّق، فلا توجد -حتّى الآن- عربة  يمكنها أن تنطلق  بسرعة الضوء!.

 نعم، إنّ هذا اعتراض مقبول.إلّا أن الإنسان، عند نقطة عبور ما، لايزال بإمكانه أن يطلق أحكاماً بسرعة  تتجاوز سرعة الضوء!

ألا يخاف اللاجئون في غالبية الدول من اتهامهم بمشكلات الدول المستضيفة حتى قبل أن تحلّ المشكلات، قبل حلول المشكلات ذاتها!.

ألا يمكن للأيديولوجيا القوميّة أو الدينيّة أن ترسل إلى متبنيها مجموعة أحكام نمطيّة جاهزة، تنتظر أقلّ حركة من الجهة المستهدَفة، لتطلق الأحكام على تلك الجهة! فإن كان العابر ذا بشرة مختلفة، أو لغة مختلفة، أو يرتدي ثيابا تبدو غريبة  في مجتمع "متجانس"..، مثل أن يمرّ عابر يرتدي  قميص فريق كرة قدم في  شارع "متجانس" لفريق آخر.. فإن كل تلك الإشارات يمكن أن تؤدّي رسالة خاطئة واحدة فحواها "هذا عدوٌّ"  بغض النظر عن تعدّد الجهات المرسِلة والمستقبلة..

لنكون أكثر ملاحظة لن ندّعي أنّ: عين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا، كما قال الشاعر، بل لعلّنا إزاء عين تنتج المساوئ، وتلقيها كرسالة حتميّة على الهدف.

ثمّة حُكم طائفي أو عرقي لا ينتمي غالبا  إلى الحدث الأخير. بل  لعلّه حكم جاهز قادر بمفرده على إعادة  توهّم تفسير كل حدثمن جديدللوصول إلى النتيجة القديمة ذاتها، وكلّ مرّة!.

لكن من جهة أخرى، فإنّ بعض ثقافات التسامح المصطنعة قد تعبّر عن  تمييز عرقي أكثر شعارات التمييز المعلنة بشكل واضح. مثل الجملة المنسوبة إلى متسامح أبيض البشرة  يصف شخصاً آخر، أسمر البشرة، بأنه مثل حبة جوز الهند.. أي أن صاحب البشرة البيضاء متسامح مع سُمرة الآخر،فالآخر، رغم سمرته، فإنّ له قلباً أبيض..!

هل التسامح يعني  قبول الآخر الذي لا نراه مخطئاً، والذي يشبهنا تماماً، وهل إن كان يشبهنا سيكون آخر. ربّما يمكن طرح المزيد من الأسئلة على من يطالب بضرورة إصلاح الآخر للتسامح معه!.

من دون شك إنّ أيّاً من الأديان والمذاهب والأعراق والثقافات يمكن أن يمتلك خطاب تسامح يتفوق على حياديّة إشارات المرور، إلّا أنّ جميعها أيضا يمكن يُشتقَّ منه خطاب متربص بالآخر لاتهامه.

ربّما يمكننا القول كذلك: إنّ عدم التسامح خطابٌ شريرلإنسان حر.  كما أنّ التسامح أيضاً خطاب خيّرٌ لإنسان حر، لكنّ كلا الخطابين- التسامح وعدم التسامح - ليسا منبعثين  بالضرورة من الثقافة بقدر ما يستخدمان الثقافة لإبراز كل منهما. لذلك فإنّ دعوة الآخر لتغيير ثقافته قد لا تدل مسار تسامح حقيقي.

لأن الإنسان حرٌّ بطبعه؛ فإنّ الشرائع السماوية والقوانين الوضعية  كلها، لا يمكنها- بذاتها فحسب- أن تخلق منه كائنا عادلا ما لم يُرِد هو أن يكون عادلا. كما لا يمكنها أن تخلق منه إنساناً ظالماًما لم يُرِد هو أن يصير ظالماً.

 إلا أنّ الايدلوجيا، وقبل البدء غالبا،  تُفقِد الإنسان حريّته في أن يختار، وتحبسه ضمن خطاب لا يقبل التساوي مع الآخر، ومن ثمّ فالإنسان  المؤدلج خاضع لنمط يمنعه، ويهيّئه لعدم التسامح فقط..

يمكن للحوكمة الجيدة أن تدير العلاقة القانونيّة بين أفراد المجتمع، لكن لا يمكنها ضبط سائق ينظر إلى العابر كعدو، ولا أن تضبط عابرا يرى في السائق عدوّاً.

قد يسمح السائق السوي والعابر السوي، كلاهما، لعربة الإسعاف بأن تتجاوز على حقّيهما فتمر.. ليس لأن عربة الإسعاف على حق، بل لأنّهما سويّان إنسانيّاً.

السائق السوي، غير المؤدلج، مهما بلغت سرعة عربته فإنّه لن يتربّص بالمارّة ليدهسهم، كما لن يتربّص عابر الطريق السوي بالسّائق ليتّهمه بالتخطيط لارتكاب جناية، عندئذ يمكن لإشارات المرور أن تدير علاقة اقتصاديّة بين إنسانين، أو مواطنين سويّين.