بين بعث العراق والبعث السوري

بين بعث العراق والبعث السوري
ملكية الصورة: الإنترنت
تفاصيل برس - مصطفى عباس (باريس)

 

القارئ لسيرة البعث بفرعيه العراقي والسوري يجد أن التشابه كبير بين الاثنين على مستوى النتيجة التي تحققت للمنطقة، فالحزب التقدمي كما سماه مؤسسه ميشيل عفلق ليتمايز عن الدول " الرجعية" ذات أنظمة الحكم الوراثية، وما حققه من نتائج مبهرة في سوريا والعراق جعل الناس دائماً يتمنون أن تحكمهم الأنظمة الرجعية، فهذه الأنظمة، على مافيها، لم تجنِ على بلدانها كما جنى البعث على البلدين.

دخل حزب البعث إلى العراق من سوريا عام 1949 عن طريق طلاب سوريين ينحدرون من لواء اسكندرون كانوا يدرسون في جامعة بغداد، هم من أتباع وهيب الغانم رابع مؤسسي البعث، بعد عفلق وصلاح الدين البيطار وجلال السيد، أربع مؤسسين مختلفين عن بعضهم في الرؤى والتوجهات، مايعني وجود تراخي تنظيمي، إلا أن بعث العراق كان من البداية متزمت أخلاقياً، ولم يكن من مؤسسيه مثقفون كالبعث السوري، الذي ضم العديد من المثقفين كسامي الجندي وجمال أتاسي وعبد الله عبد الدايم.

 

من البداية حاول الأمين القطري في العراق فؤاد الركابي بناء موقع للحزب في الجيش، كردة فعل على نجاح ثورة يونيو في مصر التي قادها ما بات يعرف بالضباط الأحرار، والدور المتعاظم للضباط البعثيين في سوريا كعدنان المالكي ومصطفى حمدون.

في ذات العام الذي وقعت فيه الوحدة بين سوريا ومصر أطاح انقلاب عبد الكريم القاسم المقرب من الشيوعيين بالنظام الملكي في العراق، أما الرجل الثاني في الانقلاب فكان عبد السلام عارف وهو قومي مؤيد لعبد الناصر، ولكن سرعان ما بدأ الخلاف بين قطبي الثورة، فحكم على عارف بالإعدام لتآمره مع رشيد عالي الكيلاني لقلب نظام الحكم، ما أدى لخروج البعثيين والقوميين من الحكم، وفي حين فشلت الوحدة في سوريا، استطاع البعثيون أن ينقلبوا على القاسم في الثامن من شباط عام 1963، وكان القائدان للانقلاب هما الناصري عبد السلام عارف والبعثي أحمد حسن البكر، وكالعادة بدأ الطرفان بالتنازع، فتم إبعاد البعثيين عن الحكم، حتى عام 1968، وكذلك كان حال الرفاق السوريين من أعضاء اللجنة العسكرية السرية، فهم تحالفوا مع ضباط ناصريين وقاموا بانقلاب الثامن من آذار من ذات العام، ثم انقلب البعثيون على الناصريين، وبدأوا بالفتك ببعضهم في سبيل الكرسي.

وفي شباط من عام 1966 انقلب صلاح جديد وعبد الكريم الجندي وحافظ الأسد على جناح الحزب اليميني، واعتقلوا من قياداته من لم يستطع الهرب خارج البلاد، ومن ضمن من فر بروحه هو القيادة التاريخية للبعث متمثلة بميشيل عفلق وصلاح البيطار، وحينها قال عفلق مقولته المشهورة، " أن لا هذا البعث بعثي، ولا هذا العسكر عسكري"، ثم بعد أربع سنوات انقلب حافظ على صانعه صلاح جديد وزج به في السجن حتى مات، فيما في تموز عام 1968 جرى انقلاب بعثي بقيادة أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين المجيد على الرئيس عبد الرحمن عارف، وتأسس نظام حكم بعثي كان لصدام الكلمة الفصل فيه.

وأنت تقرأ تاريخ البعث السوري ستجد أن كثيرين تم تسريحهم أو اعتقلوا أو تم نفيهم أو حتى حكموا بالإعدام، ولكن عند قراءة تاريخ البعث العراقي ستجد أن النسبة الأكبر هي من تم تصفيته جسدياً.

يمكن تشبيه أحمد حسن البكر بأمين الحافظ في سوريا، فالاثنان من خلفية عسكرية، ولكنهما واجهة لحكام فعليين، فالحافظ كان واجهة لصلاح جديد، ولكنه تمرد عليه فتم سجنه ثم نفيه بعد حركة شباط. والبكر كان من الجيل البعثي الأول فهو من مواليد 1914، وظل رئيساً لإحدى عشر سنة، ولكن الكلمة الفصل كانت لصدام، الذي أجبره بعد 11 سنة على التنحي بحجة المرض.

صدام ينحدر من قرية العوجا في تكريت يتيم الأب، وتعرض لقسوة زوج أمه، ما اضطره لترك بيتها والانتقال إلى بيت خاله خير الله الطلفاح، و كان معروفاً بقوة الساعد وبأعمال الفتوة، ولم يكمل تعليمه، ولم ينجح في دخول الكلية العسكرية، وكذلك حافظ ينحدر من عائلة فقيرة ليست ذات جذور معروفة بالتحديد، رغم أنه ينتمي شكلياً إلى عشيرة الكلبيين، وعائلته كذلك اكتسبت اسمها من قوة ذراعها، تعثر حافظ أكثر من مرة في الثانوية، ولكنه دخل في النهاية إلى الكلية الحربية في حمص.

الرئيسان اللذان كان لا يطيقان بعضهما اعتمدا على العائلة والعشيرة اعتماداً وثيقاً، ومن بعدها الطائفة، والاثنان ينحدران من أصول ريفية، ولكن يقابل العلويين في سوريا التكارتة في العراق، وهم القادمون من مدينة تكريت، وكانت لهم السطوة في الجيش والمخابرات العراقية، وتوافدوا إلى مدينة بغداد، حتى طغى طابعهم الريفي عليها، وهنا تم ترييف بغداد، حسبما يقول الكاتب حازم صاغية في كتابه " بعث العراق.. سلطة صدام قياماً وحطاماً".

كان البطش السمة الأبرز للاثنين، نتيجة عدم تمتعهم بأي شكل من أشكال الشرعية، وفيما كان حافظ كتوماً، وصفه القيادي الفلسطيني إياد خلف بالباطن، كان التهور والثقة بالنفس الزائدة كانت من نصيب صدام، الذي حكم بلداً غنياً، استطاع من ريع النفط أن يشتري العديد من الأصوات، بمن فيها ميشيل عفلق المؤسس الرئيسي للبعث، الذي كان يكيل المديح لصدام. كان البلدان البعثيان يتآمران على بعضهما، ولكن حروب صدام العبثية ومغامراته عجلت بزوال حكمه، في حين استطاع الأسد الأب توريث ابنه الحكم، والتأسيس لعائلة بات نجمها على وشك الأفول.

البلدان استوردا " عبادة الشخصية" من أنظمة الحكم الشرقية وطبقاها، وإن كان تطبيقها في العراق بطريقة أكثر مباشرة وأشد فجاجة.

بعد غزو الكويت عام 1991 وإجلائه عنها من قبل قوات التحالف والضربات الكثيرة التي تلقاها على إثر ذلك أصبح صدام كالنمر الجريح الذي ينتظر ساعته، حتى جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 الذي استطاع الإجهاز على هذا النمر، وكذلك نظام الأسد اليوم منهار تماماً يعيش على منفسة روسية إيرانية، وما أن يتوقف بث الأوكسجين فيه حتى يسقط، وهو اليوم مثل العراق في تلك الفترة التي تلت غزوه للكويت.

بكل الأحوال.. لم يجلب البعث بشقيه السوري والعراقي على العرب سوى الويلات، ومزيد من التشرذم والفرقة، ورغم سقوطه في العراق عام 2003، إلا أن من جاؤوا بعده كانوا أشد منه سوءً، وذلك البلد النفطي الغني يعاني اليوم من عدم وصول مياه الشرب إلى بعض المناطق فيه، بينما سوريا الأسد هذه الأيام على وشك الوقوع في براثن المجاعات نتيجة سياسة الابن الرعناء.