النازحاتُ شمالًا

النازحاتُ شمالًا
ملكية الصورة: الإنترنت
فوز الفارس - تلفزيون سوريا

تتيح دراسة تاريخ المهمّشين لنا أو ما يُطلق عليه "التاريخ من أسفل" الحصول على فهم تاريخيّ مختلف؛ لأنّه يركّز على العمق بدل السطح، ويُعتبر بمنزلة تصحيحٍ لتاريخ الأشخاص القابعين في القمّة، وقد دخل هذا المفهوم لغة المؤرّخين المشتركة بدءًا من الثورة الفرنسية فصاعدًا، حين نبّه تطوّر الحركات الجماهيريّة آنذاك الباحثين إلى إمكانيّة كتابة التاريخ من أسفل، بغرض فهم حياة الناس المهمشين والعاديين من خلال نقل وقائع حياتهم اليومية وتجاربهم الخاصة؛ لأنّ تاريخ الفرد العاديّ له دلالته وتأثيره، مثله مثل تاريخ العظماء، وسيرته أيضًا لها معنى، إذ يقدّم فهمًا أعمق للمسار الإنسانيّ، وقد تأثّر هذا المشروع إيجابًا بتصاعد التاريخ الشفاهيّ، الذي يهدف إلى إعادة كتاب أصوات المظلومين والمضطهدين وإبرازها من خلال دمقرطة التاريخ التي تركّز على تاريخ المستضعفين ـ ومنهم النساءـ  إلى جانب الأقوياء.

ومن الكتابات الحديثة التي لجأت إلى هذا المفهوم المختلف في كتابة تاريخ الأفراد والجماعات "منظر لامرأة صالحة" لـ "كيت ستيدمان" حيث تتشابك فيها تجارب الكاتبة الشخصية مع أوصاف حياة أمّها المنتمية إلى الطبقة العاملة في تأمّلٍ دقيقٍ للتاريخ والمجتمع، وهذا ما دعت إليه سابقًا فرجينيا وولف في كتابها (غرفةٌ تخصّ المرء وحده) حين تحدّثت عن النساء والكتابة الإبداعية؛ إذ تقول: "نحن نفكّر من خلال تاريخ أمّهاتنا لو كنّا نساء، ومن العبث أن نلجأ إلى العظماء من الكتّاب الرجال نطلب العون في هذا المضمار".

أمّي وأمّهاتٌ سوريّاتٌ كثيرات ليس لديهنّ اطّلاع على ما كتب وقيل عن المرأة، ولم يقع ذلك في دائرة اهتمامهنّ يومًا

لستُ بصدد مراجعة وتقييم مكتسبات المرأة السورية المهمّشة التي يندرج الحديث عنها ضمن دراسة (التاريخ من أسفل)؛ ما ظفرت به في سنيّ الثورة كحدث مفصليّ وبارز (التاريخ من أعلى) وما لم تظفر به، ربّما لأنّه في مجتمعاتنا: "مجد المرأة الحقيقيّ هو ألّا يتحدّث عنها أحد" وفق رؤية بيركليز؛ كما أنّ أمّي وأمّهات سوريّات كثيرات ليس لديهنّ اطّلاع على ما كتب وقيل عن المرأة، ولم يقع ذلك في دائرة اهتمامهنّ يومًا، ولا يعنيهنّ بأيّ حال من الأحوال أنهنّ كنساء من أكثر المخلوقات موضوعًا للنقاش في الكون، في النهاية كثيراتٌ منهنّ لا يجدْنَ القراءة والكتابة، ولن يستطعْنَ الاطّلاع على المجلّدات التي تناولت حقوق المرأة، ولمّا تدخل مصطلحات التأهيل والتمكين قاموس حياتهنّ المتواضع، فضلًا عن عدم معرفتهنّ بمصطلح النسويّة وما بعدها وآخر صيحاتها، ومع هذا كلّه فإن الثورة بالنسبة لي بمراحلها المختلفة وكلّ الأطوار التي مرّت بها خلال سنينٍ عشرٍ تؤرّخ من خلال أمّي وحدها.

أمّي كالسواد الأعظم من الأمّهات السوريّات ممّن تربّين على البذل والتضحية وإفناء الذات في سبيل العائلة، عرفت في مرحلة متأخّرة وبمحض المصادفة بحصّةٍ لها في ميراث أبيها، ابتهجت قليلًا؛ لكنّ ابتهاجها سرعان ما زال حين شعرت بامتعاض إخوتها الذكور من مشاركة غريب (زوجها) لهم في ميراث أبيهم؛ فتنازلت عنه عن طيب خاطر، حرصًا على عدم تعكير صفو الأخوّة بمتاعٍ زائل كما يصفونه.

في أحايين كثيرة أحمد الله أنّ أمّي لا تقرأ، ولا تتابع أيضًا تلك الأخبار والحكايات التي تعكّر صفو ثورة اندفع أبناؤها إلى الالتحاق بركبها منذ البداية، لم يكن حماس أمّي للثورة كحدثٍ مصيريّ قلب حياتنا رأسًا على عقب يقلّ عن حماسنا، ارتفع صوت أمّي للمرّة الأولى في البيت مع بدايات الثورة بقرار نسف تقليدًا أبويًّا راسخًا في بيتنا يتعلّق بموعد الغداء يوم الجمعة، فقد كان الغداء يوضع بمجرّد وصول أبي البيت عائدًا من صلاة الجمعة، كلّ أفراد العائلة يجب أن يكونوا موجودين، والويل لمن تسوّل له نفسه الغياب أو التأخر عن موعد الغداء.

كان قرار أمّي الأوّل الجديد الفريد والوحيد متزامنًا مع خروج المظاهرات في بلدتنا:

"ألّا يُوضع الغداء وألّا يتناول أحدٌ منّا لقمةٌ يسدّ بها جوعه قبل عودة الشباب من المظاهرة".

كنّا نزجي انتظارنا عودتهم بمتابعة البثّ المباشر للمظاهرات على فضائيّاتٍ عدّة، نترقّب بشوقٍ وحماس أن تُبثّ مظاهرات بلدتنا، وكان حماسنا يصل أشدّه حين نلمح وجهًا نعرفه قد التقطته عدسة من يقوم بتصوير المظاهرة.

حين بدأت الثورة تنتقل من طورها السلميّ ويُدفع بها بشكلٍ مقصود إلى الصّدام والمواجهة، غادرَنا إخوتي إلى الشمال بعد أن انضموا إلى صفوفها بفعلِ ثوريٍّ يواجه بطش النظام وعنفه، كان على أمّي أن تبقى مع أبي وإخوتي الصغار ليزرعوا الأرض، ولتقوم أمّي في الصيف بإعداد كميّات كبيرة من المونة وإرسالها إلى إخوتي وعوائلهم في الشمال، وحين قام النظام باقتحام البلدة وبدأ بملاحقة الثوار وذويهم غادرتها أمي، والتحقت بإخوتي شمالًا، كان الموسم حينها على وشك القطاف وكان النظام يتعمّد المعارك واقتحامه القرى والبلدات حين يكون الأهالي على وشك جني محاصيلهم التي ينتظرونها طوال السنة، لم يكن فقدان الموسم الخسارةَ التي أصابت أمي، بل كان استشهاد أخي الأول ثم الثاني رصيدها الذي تتلمسه بأمومتها المفجوعة، وهي تودّعهما واحدا تلو آخر.

لا أعلم إن كان حماس أمّي للثورة ذاتيًّا؛ أو أنّه انتقل إليها من إخوتي. قبل نزوحها إلى الشمال، وفي أوقات الحصار التي كانت تسبق المعارك شاركت أمّي بإعداد الطعام للشباب، ربّما كانت دعواتها لهم بالنصر والعودة سالمين تنضج قدر طعامها، استقبلت عوائل نازحة من المدن والقرى المجاورة وقدّمت لهم ما تستطيعه، وبينما كانت النساء والأطفال الصغار ينزلون إلى الملاجئ والأقبية تحت الأرض في أثناء القصف، كانت أمّي تخبز على التنور، وتساعد الشباب في طبخ كميّات كبيرة من الطعام، وبسبب إصرارها على البقاء خارجًا أوشكت أن تودي إحدى القذائف بحياتها، حين سقطت على باب القبو الذي احتمى فيه عدد كبير من أهالي البلدة، كانت تلك القذيفة من النوع الرحيم، إذ اكتفت بأخذ جزءٍ من سمعها.

أمّي التي نزحت شمالًا لم تأسف على شيء بقدر أسفها على قبور إخوتي التي كانت تزورها كلّما فاض بها الحنين وشعرت بالرغبة في الحديث إليهم، حين ودّعتهم وعدتهم أن يكون غيابها قصيرًا وأنّها ستعود في أقرب فرصة بمجرّد توقّف القصف على البلدة.

أمّي كعديدٍ من الأمّهات السوريّات صانعات الحياة، لا ينتظرن أن يثني أحد على ما يقمن به، ولا يتذمّرن حين لا يحظين بالتقدير الذي لا ينتظرنه بالأصل، تكون فرحتهنّ على أشدّها حين ينجح أبناؤهنّ في شقّ طريقٍ لهم في دروب الحياة الصعبة، وأقصى أمنياتهنّ أن يزورهنّ أبناؤهنّ بين الحين والآخر ومعهم أبناؤهم الصغار كلّما أتيحت لهم الفرصة؛ لكنّ قدر الأمهات السوريات ـ وأمّي من بينهنّ ـ أن يرحل أبناؤهن خلف حلم الحرية ويتركوا صغارهم أمانةً في أعناقهنّ.

 يعترض ذهني سؤالٌ عابرٌ في ذكرى الثورة العاشرة: هل يقلّ دور أيّ أمّ سوريّة عن دور ذلك القياديّ أو الثائر الذي شارك في الثورة؟ هل تتأثّر الثورة وحياتنا إذا استقال من صفوفها أحد أبنائها أو قياديّ بقدر تأثّرها حين تستقيل الأمّهات يومًا واحدًا من أدوارهنّ التي يقمن بها؟ ما الذي قدّمناه نحن لهذه الثورة؛ وهل ما قدّمناه يُقارنُ بما قدّمته أمّهاتنا؟

ما الذي قدّمته مئات الناشطات اللواتي يتحدّثن باسم المرأة السورية؟ هل تلك المهاترات والجدل الدائر بين النسويات ومناهضيها الذين يرون خطورتهن على المجتمع والأسرة قدّمت أو أخّرت، أو حقّقت أي مكسب لأمّ أو لزوجة فقدت معيلها؟ هل تجاوزُ الواقع بما فيه من مآسٍ إلى نظريّاتٍ تخصّ واقع مجتمعٍ آخر بعيد يقدّم أي فائدة مرجوة لأمّي ولآلاف الأمهات اللواتي لم يجرّبن رفاهية حياة اللجوء في مجتمع غربيّ أو عربيّ حتى؟ وبقين هناك في الشمال.

أمّي لم تقترف الهجرة وإنّما بقيت هناك نازحة في الشمال، وقلبها قد يمّم نحو الجنوب، نحو بيتها وأرضها التي استعاضت عنها بقطعةٍ صغيرة من الأرض ملاصقة لبيتها المتواضع جدًّا والذي تصل أجرته إلى مئة دولار في الشهر تقريبًا، وكلّ ذلك بفضل جهود أولي الأمر منّا وتمسّكهم بخدمة أهلنا المهجّرين والنازحين وحرصهم الشديد على رعايتهم.

في ذلك الحقل الصغير البديل تُمارس أمّي العمل الوحيد الذي يشعرها بوجودها، وأنّها ما تزال على قيد الحياة رغم اقترابها من عتبة الستّين، ما تزال أمّي ترعى محصولها الصّغير وترعى الصّغار من أبناء الرّاحلين، تخبز الخبز على التنور وقد تضطر لطبخ الطعام على مدفأةٍ من الحطب لتوفّر ما يمكن توفيره، وتنضح الماء من بئرٍ قريبة..

بكيتُ مع أمّي واعتراني خوف من أن يأتي يوم تجلس فيه أمّي إلى المائدة وحيدةً تنتظر أبناء الرّاحلين أن يعودوا من مظاهرة ما..

مع هذا كلّه شعرتُ اليوم في أثناء حديثي إليها بروح جديدة وحيويّةٍ تشعّ من وجهها، بدت لي فرحةً بالمظاهرات التي عادت مجدّدًا في ذكرى الثورة العاشرة، ثمّ عرّجت على ذكرى الراحلين وداهمتها موجة من البكاء قالت لي:

ـ كنتُ على وشك أن أطلب من الصّغار أن نؤجّل الغداء ريثما يعود الشباب من المظاهرة..

بكيتُ مع أمّي واعتراني خوف من أن يأتي يوم تجلس فيه أمّي إلى المائدة وحيدةً تنتظر أبناء الرّاحلين أن يعودوا من مظاهرة ما..

ينتظر كثيرون منّا أن تنتصر الثورة؛ لكلّ واحد منّا دوافعه وغاياته؛ وسواء كانت دنيئةً أو نبيلة ستنتصر الثورة، وسيسارع كثيرون إلى حجز مكان لهم في قائمة المنتصرين الذين وحدهم من يكتبون التاريخ بشكله التقليديّ المتعارف عليه (من أعلى)، على هامش النصر وتحته ستعود الأمّهات إلى بيوتهنّ وأرضهنّ ليقرأن الفاتحة على قبور من رحلوا، ويلملمن ذكرياتهنّ الموزّعة في كلّ مكان، ومن ثمّ يعدن لحراسة ورعاية حياتنا بصبرهنّ وصمتهنّ المعهود.