ماذا يفعل الغياب بقلوب الأمهات؟
أم وليد على موعد يومي مع الفجر وحده من تستطيع أن تبوح له بكل خلجات روحها دون عزول، وحدها الصلاة ما تستطيع فعله لتستحضر خيالاتهم ولدا ولدا، تنهي الصلاة مسلمة، لتبدأ بدعوتهم مستشهدة بالله..
مع كل ولد تبدأ الذكريات بمشاكستها، تبدأ بالأكبر والذي طالما عاتبها البقية على جرعات حب زائدة له لم تستطع اخفاءها كل تلك السنين، تبدأ دعاءها له أن يحمه الله ويرزقه، ثم يمر طيف صغاره في بالها، ليشملهم الدعاء..
تداعب الدموع المعجونة بابتسامة مخفية عيونها، يحرك الخيال شوقها لهم، ليقفز مباشرة لخيالات كل أحفادها، وحدهم الصغار من يؤنسون الروح ويروون ظمأ الفقد والذكرى..
فجأة تعيدها الذكرى لصور أولادها وهم صغار، فتختلط الصور في مخيلتها، يشتتها دموع تهطل دون رادع لها، تحاول أن تنهي كل الذكريات فترفع صوت دعائها مختصرة ألم الذكريات، لتجمعهم جميعا في دعاء واحد،(الله يرزقكن ويحميكن)..
ثم تبدأ بطرح الأسئلة على نفسها وعلى الله (يا رب معقول شوفهن قبل ما موت؟) (معقول يرجعوا يا رب؟) ، لن يسلم من كان السبب في غيابهم من دعائها، تدعو عليه وتتمنى أن يذوق ما ذاقته كل أم وأب، يوقفها قلبها عن الدعاء على أولاده، وحده قلب الأمهات من يرأف بالولد، حتى لو كان ابن عدوها.
تجلس أم وليد يوميا تنتظر الصباح، ولو استطاعت أن تقدم الساعات لفعلت، لتبدأ أحاديثها اليومية عنهم ومعهم، تنتظر أحد المارة ليتصل لها بأحد أبنائها، علمتها السنين، أن الغائب يعود بانتظاره، علمتها المواويل أن الفرح يأتي في أخر اللحن، لكنها لم تستطع أن تتعلم كيف تجري اتصالا يخفف من ألم الانتظار وحزن الألحان، علمتها الدروب أن خيالات ستأتي من آخرها، وأن أياد ستلوح لها من بعيد، لكنها لم تتعلم أن تنادي هي تلك اليد.
تتعثر يوميا بأحدهم لتطلب منه أن يتصل بأي واحد منهم، يخبرها أن أحدهم لا يرد، تبرر قبل أن ينهي كلامه، معجلة بالعذر لنفسها وله، قد يكون نائما، أو قد يكون خارج البيت، لا ربما ليس لديهم انترنت..
ثم تستطرد بالشرح له عن أحوالهم، حتى تخبره كل أخبارهم، وربما تتكلم له عن أطفالهم ، ثم تعيد نفس السؤال يا ترى بشوفهن قبل ما موت! ليرد عليها بعبارة باتت شعار السوريين جميعا بيفرجها الله، الله كريم، كم من الكرم ستحتاج أم وليد ليطول الله بعمرها، وكم من الصبر ستحتاج لتتلقف هذا الكرم!
تدمدم أم وليد يوميا موالها الذي حفظته عن ظهر قهر ووجع وغياب، بصوتها المبحوح، والمكلوم بالغياب، "غابت علينا الشمس، واعتب علينا الليل، جسر المودة انقطع وما ضل بينا حيل".
لم تعد تُغري أم وليد منظر الشمس، شمس واحدة تريد رؤيتها فقط، هي شمس الإياب، ما عاد لشمس الغياب لون في عينيها اللتين صغرهما البكاء. عيون أم وليد تشبه عيون كل الأمهات اللواتي فضلهن الوطن وقوى حبال التمسك به لديهن، ولفظ أبناءهن، ليفاوضهم عليهن، ووحدهن الأمهات يخترن الغياب من أنجبن على موتهم أمام عيونهن.