حوار سابق مع الروائي السوري عبد العزيز الموسى

حوار سابق مع الروائي السوري عبد العزيز الموسى
ملكية الصورة: وكالات
تفاصيل برس (إدلب)

توفي ظهر اليوم الإثنين، الكاتب الروائي السوري والمفكر عبد العزيز الموسى بعد معاناة مع المرض، عن عمر ناهز 74 عاماً في مكان نزوحه شمالي إدلب.

في روايتي (نزيف) فيها بصاق وألم وحقد، فيها كلمات قاسية جداً، علماً أنني كتبت وألغيت عدّة مرات عساي ألطّف الألفاظ لكن عبثاً، باختصار شديد.. لكي تكون إنسان قابل للعدّ في هذا الوقت يجب أن تكون إنسان بائس، مضطرب، وعندها نقول أنك تنتمي لهذه المرحلة التي نعيشها.

عندما اغتالت قوات الأمن، أحد جيرانه، بدأ بكتابة رواية يتحدث فيها عمّا جرى، وعندما وصل إلى الصفحة 40 قضى ابنه محمد شهيداً في إحدى المجازر، ليكمل العمل في الحديث عما جرى.

هكذا وبكل ترتيب يتحول من شاهد يكتب إلى بطل لرواية أراد منها أن تكون آخر أعماله، معتبراً أن كل ما كتبه قبلها مجرد محاولات.

عبد العزيز الموسى ابن مدينة كفرنبل /1946/، له من المطبوع ست روايات أولها اللقلق، ثمّ عائلة حاج مبارك التي فازت بجائزة نجيب محفوظ المرتبة الثانية، والجوخي، و بغل الطاحون، جبّ الرمان، وآخرها جرجرة التي طُبعت خلال الثورة، وله أيضاً ثلاث مخطوطات منها رواية كاهن دوراً الفائزة بجائزة مجلة دبي الثقافية، ومسمار السماء.

هو الفلاح، وبياع البطيخ، والأستاذ، والكاتب، والروائي، الذي حولته الأيام من كاتب للرواية إلى بطل فيها، والذي يحسد كل من يجيد الغناء والرقص.

جريدة زيتون التقت بالكاتب عبد العزيز الموسى في منزله بمدينة كفرنبل عام 2014 وعادت بالحوار التالي:

كوّمت الخيم مع أعمدتها، وأعطيتها النار، ثمّ جلستَ على تخم قريب تحتسي الشاي، وتراقب ألسنة اللهب، لم ترقص أو تعزف الغيتار «كزوربا» بل اكتفيت باحتساء الشاي، خسرتَ كلّ شيء ووصلت ديونك إلى ما يزيد على نصف مليون ليرة آنذاك، وحينها فقط قررت أن تكون كاتباً، بتلك الحالة أنهيت رحلتك مع البطيخ وبدأت الكتابة احترافاً.. صف لنا تلك البدايات؟

– المرحلة التي تتحدث عنها انتهت من فترة بعيدة، البطيخ كان مهنتي، وكان الناس آنذاك في الضيعة ينظرون إلى الرجل إما أن يكون موظفاً أو (ضمّان) لأراضي البطيخ، وكان صاحب تلك المهنة في تلك الفترة ذو مركز اجتماعي، وكنتُ أُوفّق بالمهنة دائماً، ولكن أتت سنة خسرتُ كل شيء مالياً، في تلك الفترة عاندني الحظّ فقررت أن أحرق الخيم وحرقتها، كانت وقتها حالة من الجنون والهبل، لكن كان لابد منها.

هناك حزن أراه في كل تفاصيلك، تحاول إخفائه فتفضحه عينيك!

– هذه الحالة ليست خاصة بي بالذات، إنها حالة عامة، وأنا متفاعل مع المحيط الذي أعيش فيه، وتؤثر فيّ الوقائع بشكل كبير، في الوقت الذي لا أمتلك فيه التأثير على هذا الواقع وأقصد ما تمرّ به سوريا، طبيعة المجريات التي نعيشها تجعل الإنسان يُلغي قدرته على التفكير بمعنى أن كل الآليات المنطقية التي كنا نمتشقها في حياتنا وكل أساليب التفكير من تحليل، من تركيب، من استقراء، من رسم للوقائع وطبيعة ردود الفعل، فوجئت أن كل هذه المعطيات كانت خاسرة، وفوجئت أن حجم الوخم الذي يسكن في الناس ما كان في الحسبان، وهنا لا أحدد جهة معينة، هو موضوع عام، بدأت أتأكد أننا مستهدفون كآدميين، نحن مُعدّوين للإلغاء والعزل عن المستقبل، مع كل ما نتملك من طموح لنكون أناس حضاريين، ونحاول أن نجسد تصوراتنا الكبيرة التي نناضل من أجلها.

وهل تعتقد أن الأشياء خانتك، والأيام أفرغت عليك كل متاعبها دفعة واحدة؟

– قلتها وأعود لأكررها أن الحالة ليست خاصة، هي حالتنا في السوق والبيت وفي وسائل الإعلام، وهي متداولة جداً، ولا أستطيع أن أتجاوز حالتي الخاصة، واستشهاد ولدي محمد بقصف على سوق كفرنبل عام 2012، وهذه الحالة انعكست في نفسي بسوداوية معينة، محمد إنسان دمث، لطيف محبوب، كان مشروع للفرح والابتهاج وتأسيس عائلة، أصبحت متأكداّ من صروف لا أفهمها، أنتَ كإنسان مُباع، ومدفوع ثمنك سلفاً، هنالك من قرّر عنّا أنه ليس من حقنا أن نعيش، هذه الحالة شكّلت لدي مغص نفسي لفترة، وما زلت حتى الآن أعاني من رشح من آثارها السلبية.

كيف تُقيّم ما يحصل في سوريا؟

– تداخلت الأمور جداً، ولكنني متفاجئ الآن، أن الآخر غير جاهز ليعترف لنا أننا بشر قادرين على العيش، وهذه الحالات انعكست عليّ، وبالتالي أنا في صراعات دائمة مع حالتين هل الولاء للبنية الثقافية أم حالة الحقد واللئم الأصفر الذي استشعره ويتسرب تحت جلدي بطريقة غير مباشرة، وهو بالدرجة الأولى موجه للغرب، الذي كشف عن وجهه الحقيقي تجاه الانسان السوري.

عمرٌ من الكلمات عشته، مرت بها مرحلة ذهبية عمرها 22 يوماً، متى حصلت وكيف؟

– كانت مع دخول الثورة، وقتها انصبت عليّ طاقة من السعد لمدة 22 يوماً اتصل بي الاتحاد أكثر من مرة في إدلب وحلب، أخبروني إذا كنتُ أمتلك رواية فهم جاهزون لطباعتها، وفعلاً أبلغتهم أن أحد الشباب الموظفين في الاتحاد لديه أكثر من رواية لي وجاهزة للطباعة، فإذا كنتم جادين في ذلك فخذوا منها ما شئتم، وفعلاً أخذوا رواية (جرجرة) وطبعوها، وخلال أسبوع كانت في الأسواق، علماً أنها تقدمت سبعة مرات وغيّرتُ في العنوان، أملاً في أن تصدف مع قارئ متفهّم، لكنها قوبلت بالرفض، يبدو أنه كان هنالك توجه ألا تطبع هذه الرواية.

وبعدها منحوني دور محكّم لكبرى المسابقات الأدبية في اتحاد الكتاب آنذاك، ومن ثمّ قُطعت الهواتف الأرضية، وخلال أشهر أرسلوا لي قرار فصلي من الاتحاد، هذا كل ما حصل ببساطة.

المرأة محور العمل الروائي، لأنها تلتقي مع الأسطورة والغيبيات، مع النزق والمزاجية.. أين المرأة من حياتك في تلك السنون المقت؟

– المرأة حالة أساسية في الحياة، وقد تكون الملهم، في كثير من الأوقات، هي الكائن العطوف، وفي هذه الفترة بالتحديد يجب أن نكون قريبين منها، فهي فعلاً أثبتت فاعليتها وجدارتها، ودعني أتحدث عن مثال صريح من ريفنا، لقد استطاعت أن تزّف أولادها نحو مجدهم، ومنهن من كانت الأب عندما قضى الزوج، في وقتٍ تتسلط عليها كل قوانين الغاب، وصراعاته، ويعمد الكثيرون لتغليفها، وصهرها في بوتقة البيت، إلا أنها تخرج وتُثبت جدارتها، إنها البطلة، والأم والأخت والبنت.

تحبّ الرقص، والغناء، من أين يأتي هذا الحب؟

– حين أشاهد الراقصين أحسّ أنهم يتخلصون من كلّ آلام العصر من قهرٍ وحزن وهمّ بممارسة هذه الطقوس الرائعة، فالجسد أجلّ مظاهر التعبير وهو اللغة الأكفأ في التوصيل، وحين يرتبط بالصوت والحركة تكون قدرته على الأداءعالية جداً.

ويبدو أنّ “الآلهة” قديماً فهمت هذه اللغة الجميلة التي أجادتها الشعوب في الأزمنة الغابرة بمظاهر من الحركة والميلان ثمّ الرقص والدبكة لطرد الأرواح الشريرة واستحضار الأرواح الخيّرة والفأل الحسن، باختصار الإنسان القديم كان أكثر صدقاً مع تفاصيل جسده وبناه النفسية وأكثر ما تظهر هذه الحالة الروحانية في جسد المرأة الذي هو قصيدة، أو سمق جمالي مطواع.

والدليل أننا حتى اليوم نتعامل مع الرقص الشرقي بحضور عال كما لو أنه حالة داخلية روحية لا تمت للتفاصيل الحوشية الغبية التي يتعامل بها الناس العاديون فحين تنظر إلى الراقصة الشرقية تحسّ بحالة روحية عميقة ويبدو أنّ هذا يرجع إلى الرقص التعبدي الغابر.

في سهرة ثقافية في مدينة كفرنبل، قلت أن الجنون يناسب ما نعيشه، ماذا قصدت؟

– الجنون أهم مطلب لنا اليوم، فليس المهم أن نعرف ماذا نقول في الوقت الحاضر، وليس شرطاً أن تكون الأفكار مرتبة ومنطقية، حتى أن الأفكار المرتبة والمنطقية من ألد أعداء القدرة على الوصول، تداخلت الأفكار وأصبحنا غير قادرين على الفرز، لكننا نكبر أحياناً حين نسمع أن هذا البلد ما يزال فيه نبض، فيه إرادة، فيه رؤية، فيه قدرة على النهوض.

أخيراً.. هل ما يزال إيمانك بأن الكلمة رصاصة موجوداً وسط هذا الواقع الذي نعيشه؟

– الثقافة والفنون تعطينا الانطباع عن مستوى انتمائنا للمجتمع الذي نعيش فيه، وتحررنا من كل المخلفات المنحطة، وهي الخلاص لعقولنا من كل ما يحيط بنا من هواجس ومغالطات، خاصة في حالة الحرب حيث استفادت الثقافة من الفوضى الموجودة للتحرر من القيود التي كانت تشل حركتها، والنظام الجاهل رغم الشعارات التي كان يتغنى بها، والكثير من المراكز الثقافية، إنما كان يحركها على هواه، وبما يتناسب مع خططه الهدامة للقضاء على المعرفة والثقافة والفنون والمفاهيم التي لا توافق توجهاته.